قال هي عصاي وأخذ يُعدِّد ما له فيها من وجوه الانتفاع فقال له: {قَالَ أَلْقِهَا يا مُوسَى}.فإنَّك بنعت التوحيد، واقفٌ على بساط التفريد، ومتى يصحُّ ذلك، ومتى يَسْلَمُ لك أن يكون لَكَ معتمدٌ تتوكأ عليه، ومستند عليه تستعين، وبه تنتفع؟ثم قال: {وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى}: أَوَّلُ قَدَمٍ في الطريق تَرْكُ كلِّ سَبَبٍ، والتَّنَقِّي عن كل طَلَبٍ؛ فكيف كان يَسْلَمُ له أن يقول: أَفْعَلُ بها، وأمتنع، ولي فيها مآرب أخرى.ويقال ما ازداد موسى- عليه السلام- تفصيلاً في انتفاعه بعصاه إلا كان أقوى وأَوْلَى بأن يؤمن بإلقائها، والتنقي عن الانتفاع بهاعلى موجب التفرُّد لله.ويقال التوحيد التجريد، وعلامةُ صحته سقوط الإضافات بأْسْرِها؛ فَلا جَرَمَ لما ذكر موسى- عليه السلام- ذلك أُمِرَ بإلقائها فجعلها اللَّهُ حَيَّةً تسعى، وولَّى موسى هارباً ولم يُعَقِّب. وقيل له يا موسى هذه صفة العلاقة؛ إذا كوشِفَ صاحبُها بِِسِرِّها يهرب منها.ويقال لمَّا باسطه الحقُّ بسماع كلامه أخذته أريحية سماع الخطاب، فأجاب عما يُسْأَل وعمَّا لم يُسْأَل فقال: {وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى}: وذَكَرَ وجوها من الانتفاع؛ منها أنه قال تؤنسني في حال وحدتي، وتضيءُ لي الليلَ إذا أظلم، وتحملني إذ عَييتُ في الطريق فأركبُها، وأَهُشُّ به على غنمي، وتدفع عني عَدَوِّي. وأعظم مأربٍ لي فيها أَنَّكَ قُلْتَ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} وأيةُ نعمةٍ أو مأربٍ أو منفعةٍ تكون أعظمَ مِنْ أَنْ تقولَ لي: وما تلك؟ ويقال قال الحقُّ- بعد ما عدَّد موسى وجوَه الآياتِ وصنوفَ انتفاعِه بها- ولَكَ يا موسى فيها أشياءٌ أخرى أنت غافلٌ عنها وهي انقلابُها حيةً، وفي ذلك لك معجزةٌ وبرهانُ صِدْقٍ.ويقال جميعُ ما عَدَّدَ من المنافع في العصا كان من قِبَلِ الله.... فكيف له أن ينسبها ويضيفها إلى نفسه ولهذا قالوا:يا جنَّة الخُلْدِ والهدايا إذا *** تُهدَى إليك فما مِنْكِ يُهْدَىويقال قال موسى لها رآها حيةً تهتز: لقد عَلِمْتُ كلَّ وصفٍ بهذه العصا، أَمَّا هذه الواحدة فلم أعرفها.